أخبار وطنية، الرئيسية، مواقف وآراء

التصوف النسائي بالجنوب المغربي

ذ. الحسين أوسرار باحث في التاريخ

إن محاولة مقاربة موضوع التصوف النسائي بالجنوب المغربي ومن خلاله ببلاد المغرب ككل هو جواب ضمني على سؤال كبير يتمثل حول: ما مدى خوض العنصر النسوي لهذا الغمار؟ ثم إن كان الأمر كذلك فهل تحقق لها من البروز ما حققه شقيقها الرجل؟ وإلى أي حد آحْتٌفِي بالمرأة المتصوفة؟

الجواب على هذه التساؤلات يتطلب سبر أغوار تجارب معينة مثلت لهذا الموضوع بالجنوب المغربي حيث برزت نساء صوفيات كان لهن حظ وافر في التصوف سلوكا ووعظا وإرشادا بالعلم والأدب ونظم الشعر وضلعن في مختلف العلوم وكن رمزا للزهد ” فمنهن الفقيهات المدرسات، ومنهن العالمات اللائي كن يدرسن العلوم، ومنهن الواعظات المرشدات، ومنهن الحافظات لكتاب الله المقرئات، ومنهن ذوات الروحانية القوية حتى عرفن برابعات زمانهن. ومنهن من يهمن بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظمن في ذلك المنظومات والمحفوظات بالأمازيغية والعربية. ومنهن من أسست عليه المدارس العلمية العتيقة منذ قرون، ومنهن من تقام عليه مواسم دينية أو تجارية أوهما معا. ”

هؤلاء النسوة إذن انتقلن إلى مرتبة نافسن فيها الرجال ” معتبرة نفسها أنه في الحقل الديني للمرأة مثل الرجل الحق في القرب من الله والتقوى،” وتعهد أدوار متعددة وتقمص حالات نفسية خاصة، لابد منها حتى ينعت الشخص كونه أدرك وبلغ مراق معينة وصفها العارفون أنها “… تصفية القلب عن موافقة البـرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول في الشريعة.” علما أن التمثيل لهذه الظاهرة وفي بداياتها الأولى بلاد المغرب الأقصى كان ذكوريا محضا من خلال: وكاك بن زلو اللمطي وعبد الله بن ياسيـن واخرون كثر، تجارب عديدة أسفرت عن تأسيس زوايا ذات أدوار متجسدة في المرابطة والإيواء للتفرغ للعبادة، وتلقي العلم ومجاهدة النفس ومواجهة الدعوات والعقائد الفاسدة.

هنا أيضا يطرح سؤال: ما كان حظ هؤلاء النسوة الصوفيات المتبرك بهن في سوس من هذه الزوايا؟

مظاهر كثيرة إذن توضح أن المرأة بالجنوب المغربي ولجت مجالا كان حكرا على الرجال رغم بعض الاستثناءات السابقة لها والتي برزت في مجالات أخرى، ممثلة بالقدوة السامية لهن جميعا رابعة العدوية والتي كانت الصفة التي تنعت بها كل من بلغت الأوج في هذا المضمار، إذ نجد إحداهن بالجنوب المغربي تسمى” لالة تاعلات ” ، هذه السيدة الصالحة الزاهدة مثال للكثيرات من أعلام النساء الفاضلات بجبال الأطلس الكبير والصغير المحيطة بمنطقة سوس الى الصحراء وضفاف وادي درعة إلى واحات تافيلالت، وستكون دليلا لاستجلاء البعض عن التصوف النسائي.

2- شخصية لالة تاعلات :

 

من خلال البحث يظهر جليا أن الترجمة التي وردت لهذه الولية الصالحة كانت كلها ذات أصل واحد، وإنما كان نقلها متواترا من مترجم إلى اخر، أي الاقتصار على ما ورد عند الحضيكي وهذا دليل على التقليل من شان البحث عن إغناء ترجمة هذه الصالحة.

أورد الحضيكي ترجمتها كالتالي: ” فاطمة بنت محمد، من بني علا (فرع من بني الحسن بقرية تسكدلت) الهلالية، رابعة زمانها. كانت – رضي الله عنها – اليوم من الصالحات القانتات الصابرات الخاشعات: الذاكرات لله كثيرا العابدات، قد انتشر صيتها، وعم بلاد السوس والغرب، وأثنى عليها الناس، وفشا وذاع ذكرها بالولاية والصلاح عند الخاصة والعامة في جميع الناس.” وقد توفيت سنة 1207 هـ/1793م، فعاصرت بذلك ثلاثة من سلاطين الأشراف العلويين، بدءً بالسلطان عبد الله بن إسماعيل [1141-1171هـ] ومروراً بابنه السلطان سيدي محمد بن عبد الله [1171-1204 هـ] في حين أدركت في آخر حياتها أوائل عهد السلطان سليمان بن محمد بن عبد الله [1206-1238هـ] وتوفيت في السنة التي تلت اعتلاءه للحكم.

كما جاءت ترجمتها عند المختار السوسي في كتابه رجالات العلم العربي في سوس مدرجة ضمن العلماء 12 الذكور الايلالنيون: ” فاطمة توعلات – بتفخيم اللام – الايلالنية: عالمة عجيبة الحال، لها شهرة إلى ما وراء الحوز، يراسلها بعض أكابر تلك الجهات، لها منظومات شلحية (ت1207ه).”

هذا الادراج ضمن الذكور يجد سنده في المعطى النفسي لسيادة العقلية الذكورية وكون التصوف خاص بالرجال” فطالما كانت المرأة رجلا في طريق الله، فلا يمكن أن تسمى امرأة.” علما ان هذه التراجم وعلى قلتها دليل أيضا على التحكم الذكوري، وتأطيره للتواجد النسوي في هذا المجال كونها لم ترد عن النساء أنفسهن، بل بقيت حكرا على الرجال كل يوردها حسب منهجه وتصوره ولو كان متعسفا. كما نجد الترجمة أيضا تغفل مناحي الحياة الاجتماعية للمتصوفة وتأثيرها وتأثرها بما يحدث في محيطها من أحداث اجتماعية وسياسية وغيرها، بالإضافة إلى السكوت عن أحوالها الشخصية كزيجاتها أو طلاقها كما حدث مع لالة تعلاط وطلاقها من زوجها، وهذا كله راجع إلى اعتبار تلك الأمور تمس من قدر المتصوفة، وكونها حالات تعتري العامة من الناس دون الخاصة.

3- كرامات لالة تعلات:

 

” إن الكرامة قد تكون طيّا للأرض ومشيا على الماء، واطلاعا على كوائن كانت وكوائن لم تكن بعد من غير طريق العادة، وتكسير الطعام أو الشراب، أو إتيانا بثمرة في غير أوانها، أو إيجاب الدعوة بإتيان مطر في غير وقته، أو صبرا عن الغذاء مدة تخرج عن طور العادة…، فهذه كلها كرامات ظاهرة حسية، وهناك كرامات أخرى أفضل وأجلّ، وهي الكرامات المعنوية كالمعرفة بالله والخشية، ودوام المراقبة، والمسارعة لامتثال أمره ونهيه والرسوخ، ثم اليقين والقوة والتمكين ودوام المتابعة والاستماع من الله، والفهم عنه ودوام الثقة به، وصدق التوكل عليه إلى غير ذلك…”

مما يميز الولية لالة تعلات أن صلاحها لم يكن موروثا عن جد أو أب أو عن بيت علمي، كذلك لم يكن مقرونا بمكانة علمية مرموقة أو زخم معرفي كبير، إنما هو اعتراف واحتفاء ممن شملهم كرمها وعطفها من العلماء وطلبة العلم بمعنى أن ولايتها وصلاحها يمكن وسمه بأنه عصامي.

 

من هذه الكرامات :

• أن كبار العلماء يطلبون منها الدعاء (محمد بن صالح الملقب بالمعطي البوجعدي كتب إليها مسلما عليها وطالبا الدعاء).

• تأتي الحرمين الشريفين وأي أفق من الآفاق متى شاءت (طيران الأولياء في الهواء).

• سقيها لماء زمزم كأنه من بئره ساعتئذ.

• رؤيتها للرسول (ص) وأصحابه.

• حضورها مع صلحاء اخرين في البيعة الخاصة لملوك المغرب قبل بيعة العامة.

• زيارة الفقراء الناصريين كل عام في أول فبراير للاستسقاء، ويبيتون ليلة الجمعة ويحيون الليلة بالموعظة والذكر.

• التوسل بها عند الشدة (العجوز التي تركت في قفر ومفازة، قيادتها للسفينة التي اوشكت على الغرق الى بر الأمان بعد ان نادى زوجها باسمها).

• تركت قصائد شعرية بالأمازيغية السوسية.

هذه الكرامات تبين أن النساء السوسيات كانت لهن مكانة في مجال الولاية مثل الرجال “…وكن مصدر بركة في حياتهن وبعد الوفاة.” بمعنى أن هؤلاء الصالحات تملكن مجالهن في حياتهن وبعد الممات (“… يؤكد الصوفية أن الولي الكامل هو من تستمر كراماته بعد مماته كما كانت في حياته، فإن للأرواح العالية منزلتها الباقية عند الله خالدة مع خصائصها في ظلال فضل الله وهباته، وعطاياه.” ) من خلال استمرار التوسل بهن، وتخصيصهن بفك الكثير مما استشكل وتعقد أمره عند النساء، فمن كرامات الصالحة فاطمة بنت سليمان السوسية أن المرأة “إذا عسر عليها النفاس مسحت بيدها على بطنها فوضعت في الحين.”

” عموما فإن بوادي سوس نشأت بها(…) نخبة علمية لها سلطتها الدينية والعلمية، وكانت لها مكانتها وأدوارها في مجتمعها القبلي.”

 

4- موسم لالة تعلات:

 

“معلوم أن للمواسم، على عكس الأسواق، طبيعة اقتصادية ودينية في نفس الوقت، مما يجعل نشوؤها مرتبطا بقوة دينية محلية منفتحة على محيط اقتصادي واسع.”

فبعد وفاة لالة تعلات بنى القائد الحاج احمد إكني الحاحي – قائد تارودانت وتيدسي – ضريحا على قبرها سنة 1255 (هـ) ،وعلى هذا فقد كان بين موتها وبين تأسيس موسمها 48 سنة.وينعقد بداية شهر مارس الفلاحي بالقرب من هذا الضريح موسم يعتبر رمزا للصورة التكريمية التي كرم بها المغاربة المرأة، ومنذ تأسيسه وهو يشهد تدفق أعداد كبيرة من حملة الكتاب يأتون إليه من كل فج عميق (حوالي خمسة عشر ألف إمام وفقيه وطالب سنويا)، ويعكفون على قراءة القرءان ليلا ونهارا، لا سيما ليلة الجمعة، فإنهم يحيونها بتلاوة القرءان من صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، وهي طريقة مشهورة بسوس لقراءة القرآن بشكل جماعي،” ويجتمع بعده الفقهاء والطلبة، والزوار، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم جماعة، فيكون ذلك علامة لقرب الدعاء، ومن ثَم يتقاطر السواد الأعظم من الضيوف، وما هو إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى تكون الساحة غاصة بهم، فيتقدم فقيه المدرسة للدعاء لأمير المؤمنين محمد السادس أعزه الله، ثُم يدعو لعامة المسلمين..” ، كما أن الموسم تحدد به أيام خاصة بالنساء للزيارة والتبرك والتسوق.

“الاعتقاد باستمرارية كرامة الولية وقداستها وقربها من الله حتى بعد موتها جعل العامة تسارع إلى التبرك بها، ليس فقط بشكل فردي بل جماعي وبانتظام في مواسم سنوية.”

5- خاتمة:

التجربة الصوفية لالة تعلات تميزت بعصاميتها، وعدم تأسيسها على إرث أسري أو بوصاية ذكورية، بل كانت متفردة حيث كسرت المألوف في هذا المجال المتمثل في أن المرأة الولية لن تحقق ولايتها سوى بالارتباط بوليّ ذكر، إما عن طريق خدمته أو الزواج منه. كذلك، فإن الاعتراف للمرأة بالولاية وإثبات صلاحها ظل مرهونا بأدائها لأدوارها الأسرية ومرتبطا في المجمل بمقدار خدمتها وطاعتها للرجل، أبا أو زوجا أو أخا. الشيء الذي انتفى في تجربة الولية لالة تعلات.

 

7- الهوامش

– العبادي الحسن: الصالحات المتبرك بهن في سوس، منشورات وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، المملكة المغربية، الطبعة الاولى سنة 2044م، ص6.

– بوبريك رحال: بركة النساء، مطبعة افريقيا الشرق، الدار البيضاء، سنة 2010، ص 16

– الحكيم سعاد: تاج العارفين الجنيدي البغدادي (الأعمال الكاملة) دار الشروق ـ القاهرة ـ مصر، ط 3، 2007، ص: 150.

– تكتبها المصادر: توعلات، ولالة تعلاطت، وتاعلات .

– طبقات الحضيكي، تقديم وتحقيق: بومزكو أحمد، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة 1 سنة 2006، ص592.

– بوبريك رحال: بركة النساء، مطبعة افريقيا الشرق، الدار البيضاء، سنة 2010، ص 19.

– https://www.nafahat-tarik.com/ بتاريخ: 12/04/2022.

– العبادي الحسن: الصالحات المتبرك بهن في سوس، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، الطبعة 1 سنة 2004، صص: 57/58/59.

– بوبريك رحال: بركة النساء، مطبعة افريقيا الشرق، الدار البيضاء، سنة 2010، ص 153.

– https://www.alsufi.net/page/details/id/299 بتاريخ: 12/04/2022.

– يقول عنها المختار السوسي في كتابه المعسول: ” كانت من الصالحات العابدات الناسكات، ولها بركة عظيمة، ونور يتلألأ عليها من بركاتها أن كل مريض أتى إليها ووصفت له دواء فاستعمله فإنه يبرأ عاجلا…مطلقة اليد لا تمسك شيء، فما كان عندها أخرجته للزائرات والزائرين من عسل أو سمن، أو قمح أو شعير فلا يبيت أحد في فم دارها إلا أكل حتى شبع وبهيمته.”

– السوسي المختار: المعسول ج7، مطبعة النجاح، سنة 1963، ص27.

– أعراب إبراهيم: الزاوية والمدرسة الكرسيفية، مطبعة دار الأمان، الرباط 2010، ص 110.

– الراجي خديجة: مساهمة في دراسة تاريخ الزاوية السملالية في مرحلة التأسيس 853ه/1460-971/1564م، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، ص، 156.

15- اكروم الحسين بن أحمد الساحلي، www.hespress.com 15 مارس 2018.

16 – بوبريك رحال: بركة النساء، مطبعة افريقيا الشرق، الدار البيضاء، سنة 2010، ص157.

 

8- بيبليوغرافيا:

– طبقات الحضيكي، تقديم وتحقيق: بومزكو أحمد، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة 1 سنة 2006.

– السوسي المختار: المعسول ج7، مطبعة النجاح، سنة 1963.

– العبادي الحسن: الصالحات المتبرك بهن في سوس، منشورات وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، المملكة المغربية، الطبعة الاولى سنة 2044م.

– بوبريك رحال: بركة النساء، مطبعة افريقيا الشرق، الدار البيضاء، سنة 2010،

– الحكيم سعاد: تاج العارفين الجنيدي البغدادي (الأعمال الكاملة) دار الشروق ـ القاهرة ـ مصر، ط 3، 2007.

– أعراب إبراهيم: الزاوية والمدرسة الكرسيفية، مطبعة دار الأمان، الرباط 2010.

– الراجي خديجة: مساهمة في دراسة تاريخ الزاوية السملالية في مرحلة التأسيس 853ه/1460-971/1564م، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *